أثارت الجولة الخليجية التي قام بها مؤخراً الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى كلٍ من دولتي قطر والكويت تساؤلات حول المغزى من توقيتها، مع تركيزها بشكل أكبر على ملف جذب الاستثمارات العربية.
بالموازاة مع ذلك، تتجه الحكومة المصرية لتقديم عوامل جذب جديدة للمستثمرين السعوديين لتفعيل ما جرى الاتفاق عليه العام الماضي من تفاهمات بشأن ضخ 15 مليار دولار كاستثمارات سعودية في السوق المصري، وقررت منح المستثمرين السعوديين الرخصة الذهبية التي تمنحهم حرية تحرك أكبر في السوق المصري.
وأعلنت الدوحة والقاهرة، في بيان مشترك، عن حزمة من الاستثمارات القطرية المباشرة بقيمة إجمالية تصل إلى 7.5 مليار دولار أمريكي، تُنفذ خلال المرحلة المقبلة، فيما تستهدف الحكومة المصرية جذب استثمارات كويتية جديدة بقيمة 6.5 مليار دولار حتى نهاية عام 2026، من بينها 4 مليارات دولار يُنتظر ضخّها العام الجاري، بحسب ما نشرته وسائل إعلام عربية وأجنبية.
خروج أكثر من 3 مليارات دولار من الأموال الساخنة
كشف مصدر حكومي مطلع أن الجولة الخليجية تستهدف التخفيف من حدة تأثيرات تقلبات الاقتصاد العالمي في ظل الحرب التجارية الحالية، وفرض جمارك إضافية من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومخاوف القاهرة من استمرار الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة وتفاقم الأوضاع المتوقعة في البحر الأحمر حال قررت الولايات المتحدة التدخل براً في اليمن.
بالإضافة إلى ذلك، يقول مصدر "عربي بوست" إن القاهرة تتجنب أزمة كالتي تعرضت لها في العام 2022 عند اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، إذ شهد الأسبوع الماضي خروج أكثر من 3 مليارات دولار من الأموال الساخنة في البنوك المصرية تأثراً بحالة الاضطراب الحالية في المنطقة.
أوضح المصدر ذاته أن جهات رسمية لديها مخاوف من تراجع العوائد المصرية من العملة الأجنبية خلال النصف الثاني من العام الحالي مع بدء تطبيق الموازنة العامة الجديدة جراء تراجع عوائد قناة السويس واستمرار انحسار حركة الملاحة، مما يؤدي إلى خسائر شهرية تزيد عن 800 مليون دولار.
إلى جانب المخاوف من تأثر السياحة سلباً في حال تصاعد الأوضاع على نحو أكبر في البحر الأحمر، والمخاوف من توسع الصراع في منطقة الشرق الأوسط، بما قد يؤدي إلى توسيع دائرة النزاعات التي ستؤثر سلباً على سلاسل الإمداد والتمويل، مما سيؤدي إلى مضاعفة تكلفة الاستيراد من الخارج.
وأكد المصدر ذاته، أن مصر تبحث عن ضخ مشروعات يتداخل بها مكونات بالعملة الأجنبية لتقليل الفجوة الدولارية بين الاستيراد والتصدير، وتهدف لعدم الضغط على الاحتياطي النقدي الأجنبي بما لا يقود لهزات عنيفة في سعر الجنيه أمام الدولار.
معتبراً أن فتح مجالات جديدة للتصدير إلى الخارج عبر المشروعات الاستثمارية يمكن أن يحقق قدراً من التوازن، وأن التعويل على المشروعات يبقى على المدى المتوسط خلال الثلاث سنوات المقبلة، والترويج للفرص الاستثمارية الناجحة للشركاء الأجانب سواء من الصين أو دول الاتحاد الأوروبي التي قامت بتوطين العديد من الصناعات على الأراضي المصرية.
وشدد المصدر ذاته على أن توقيت عودة الملاحة إلى سابق عهدها غير معروف، كما أن الاعتماد على مصادر الدخل الدولاري القصير الأجل من خلال الأموال الساخنة ليس مضمونا، ولا تنتظر القاهرة تكرار الكارثة التي تتزايد معدلات وقوعها كلما ارتفعت معدلات التضخم في الولايات المتحدة. وأن الإجراءات التي اتخذتها أخيراً تجاه الصين والعديد من دول العالم تشي بإمكانية حدوث ذلك، ومن ثم رفع أسعار الفائدة هناك ما سيقود مباشرة لهروب الأموال الساخنة.
وأكدت الخبيرة لدى بنك ستاندرد تشارترد لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وباكستان، كارلا سليم، في مؤتمر صحافي، أن هناك نحو 3 مليارات دولار من الأموال الساخنة خرجت من مصر خلال الأسبوع الماضي، وقالت إنه من المتوقع أن يصل سعر الدولار إلى 54 جنيهاً بنهاية 2026 و52 جنيهاً بنهاية العام الجاري.
وارتفعت حيازة الأجانب من أدوات الدين العام من 38 مليار دولار في الربع الأول من العام الماضي، إلى 39.3 مليار دولار في نهاية يونيو 2024، ثم ارتفعت مجدداً إلى 41.3 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2024، وفقاً لبيانات وزارة المالية المصرية.
وتوقعت سليم أن يبدأ البنك المركزي في خفض سعر الفائدة في مايو المقبل بنسبة 2% بدلاً من 1.5% في توقعات سابقة لهم في أبريل، وأشارت إلى أن البنك المركزي سيحقق مستهدفات التضخم بنهاية 2026 أي بنسبة 9%، وأن معدلات التضخم ستظل في نطاق 10% إلى 15% خلال العام الحالي.
ويعقد البنك المركزي ثاني اجتماع له خلال 2025 اليوم الخميس 17 إبريل، بعد أن أبقى على سعر الفائدة دون تغيير خلال آخر سبعة اجتماعات على التوالي.
العملة مقابل تسهيلات للاستثمارات الخليجية
ويؤكد خبير اقتصادي مقرب من دوائر الحكم، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه لـ"عربي بوست"، أن الكثير من التحذيرات وجهها الخبراء للمسؤولين عن السياسات النقدية في مصر جراء خطورة زيادة حيازات الأجانب والتمدد نحو شراء أدوات الدين المصرية. وهو ما يكون له تأثير إيجابي على استقرار العملة المحلية، غير أنه خطر للغاية في ظل تقلبات أوضاع الاقتصاد العالمية، وفي حال كانت هناك حرب تجارية بين الصين والولايات المتحدة، فإن هذه الأموال قد تتخارج في أي لحظة.
وشدد على أن توفير مصر للعملة الصعبة من خلال استحواذ الأجانب على أصول الديون أو عبر الأموال الساخنة يعد أمرًا خادعاً، لأنه يساعد في أن يجد التجار والمؤسسات والهيئات المختلفة الدولار، لكن ليس ذلك بفعل توفر العملة الناتج عن تطور الاقتصاد وزيادة معدلات التصدير أو زيادة كفاءة دورة الإنتاج، بل يرجع لوجود وفرة في العملة في الوقت الحالي.
متوقعاً أن تكون جولة الرئيس المصري إلى الدول الخليجية قد تطرقت إلى إمكانية زيادة الإقدام على شراء الديون المصرية بالعملة الأجنبية لضمان توفير العملة مقابل تقديم مزيد من التسهيلات لترسيخ الاستثمارات الخليجية.
وأشارت بيانات البورصة إلى استثمار الأجانب، سواءً العرب أو الجنسيات الأخرى، في الديون المحلية لمصر نحو 18.2 مليار دولار خلال العام الماضي 2024، منها نحو 3.58 مليارات دولار للعرب، و14.62 مليار دولار للأجانب والصناديق الدولية.
ولفت المصدر ذاته إلى أن مصر لم تقترب من أصل المشكلة التي تتمثل في وجود مبالغ طائلة يتم تداولها خارج النظام المصرفي لأسباب عديدة بينها تراجع قيمة الجنيه والخشية من فقدان قيمته. هذا بالإضافة إلى مضاعفة الدين العام، الذي واصل الارتفاع بنسبة 33% في الحساب الختامي للعام 2023/2024.
واعتبر أن ذلك يشكّل خطراً داهماً على مستقبل الاقتصاد الذي يتطلب معه التحرك عبر جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى جانب مزيد من إجراءات ضخ أموال القطاع غير الرسمي في النظام المصرفي. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال تحسين العلاقة مع المستثمرين المصريين قبل الأجانب، وتطبيق الشمول المالي وخفض معدلات التضخم، وهي إجراءات صعبة وطويلة، وتحاول جهات رسمية توظيف العلاقات الدبلوماسية القوية مع دول الخليج للحصول على مزيد من الفرص الاستثمارية.
دائرة مفرغة من القرارات الاقتصادية الخاطئة
وبلغ الدين العام المصري العام الماضي حوالي 11,457 مليار جنيه مقابل 8,609 مليارات في 30 يونيو 2023. كما تستمر خسائر الجزء الأكبر من الهيئات الاقتصادية المصرية كل عام، إذ حققت 14 هيئة خسائر في العام (عجز النشاط) بلغت جملتها نحو 14 مليار جنيه بنقص نحو 15.1 مليار جنيه بنسبة 52% عن الربط الأصلي البالغ نحو 29.1 مليار جنيه، مقابل نحو 14.4 مليار جنيه لعدد 16 هيئة للسنة المالية 2023/2022 بنقص نحو 470.8 مليون جنيه بنسبة 33%.
وبحسب نائب برلماني معارض، فإن الحكومة المصرية تعاني فشلاً في التعامل مع الأزمات الاقتصادية، شارحاً أن الاتجاه إلى الدول الخليجية يعد جزءاً من سياسة الاقتراض، لكنها تأخذ سبيلاً مقنناً في شكل ضخ عملة صعبة في أدوات الدين المحلي.
وأضاف لـ"عربي بوست" أن بعض هذه المليارات تذهب إلى استثمارات غير معروف طبيعتها، وقد تكون في شكل استحواذات أو بيع مناطق أو أراضٍ، مثلما هو الحال في منطقة رأس الحكمة. فيما يكمن الحل في تشجيع الصناعة المحلية والمستثمرين المصريين الذين يواجهون صعوبات جمة.
وذكر أن تعظيم الاستفادة من الأصول المصرية يجب أن يكون حاضراً بدلاً من الاتجاه إلى البيع للمستثمرين العرب والأجانب، وبالتالي فإنه يمكن القول إن الحكومة تدور في دائرة مفرغة من القرارات الاقتصادية الخاطئة.
كما أن القائمين على السياسات النقدية يتعاملون مع محاذير هروب الأموال الساخنة عبر خفض قيمة الجنيه لتقديم عوامل جذب للمستثمرين في أصول الدين المحلي للبقاء، لأنهم في تلك الحالة قد يتحملون خسارة نسبية، لكن ذلك سيكون له نتائج سلبية على المواطنين وعلى الاقتصاد الذي يعاني من عدم استقرار العملة المحلية منذ عدة سنوات.
فتح أبواب جديدة مع دول لم تقدّم مساعدات سخية من قبل
وتعيد الجولة الخليجية الحالية التذكير بما حدث في العام 2022، حينما تعرضت العملة المصرية لضغوط كبيرة بسبب نزوح أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة، إذ أمدّت المملكة العربية السعودية البنك المركزي بخمسة مليارات دولار، الأمر الذي رفع إجمالي الودائع السعودية لدى مصر إلى 10.3 مليارات دولار.
دعا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي المستثمرين القطريين لتوسيع استثماراتهم في مصر، لافتاً إلى أن الدولة استثمرت 550 مليار دولار لتطوير البنية التحتية في السنوات العشر الماضية، مؤكداً على أن مصر تُعد فرصة واعدة للمستثمرين، لما تمتلكه من موقع استراتيجي فريد، وقوى عاملة ماهرة بتكلفة تنافسية، إضافةً إلى أسعار الطاقة الملائمة، واتفاقيات التجارة الحرة التي تربطها بالدول العربية والإفريقية، فضلاً عن البنية التشريعية المشجعة للاستثمار.
شهدت مصر خلال الأعوام المالية الثلاثة الماضية تدفق استثمارات قطرية مباشرة بلغت قيمتها 1.3 مليار دولار، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
في الوقت نفسه، تواصل السعودية، الشريك الاقتصادي التقليدي لمصر، تعزيز استثماراتها التي تقدر بحوالي 15 مليار دولار، مع تركيز على مشروعات البنية التحتية والطاقة. وهذه الاستثمارات تأتي في سياق رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تنويع اقتصادها، وتتماشى مع رؤية مصر 2030 لتحقيق تنمية مستدامة.
وتعد السعودية من أكبر المستثمرين العرب في مصر، حيث تنوي ضخ استثمارات تقدر بحوالي 15 مليار دولار على مدار السنوات الخمس القادمة، وهذه الأموال تتركز في قطاعات استراتيجية.
وبحسب مصدر حزبي مؤيد للحكومة، فإن العلاقات المصرية الخليجية أخذت في التغير خلال السنوات الأخيرة، وبدلاً من اعتمادها على المنح المباشرة والمساعدات التي توافدت على مصر بشكل كبير منذ العام 2013، لم يعد الأمر كذلك الآن.
وقل إنها أصبحت تعتمد على الاستثمارات المختلفة بما فيها الاستثمار في أدوات الدين العام. وأن القاهرة تعمل على فتح أبواب جديدة مع دول لم تقدّم لها مساعدات سخية من قبل، مثلما هو الوضع بالنسبة للكويت، وتهدف إلى جذبها عبر توفير مزيد من الامتيازات لمستثمريها، والاعتماد على وجود شراكات اقتصادية وليس مجرد منح أو ودائع دولارية.
0 تعليق