مرة أخرى، أعلن رجل الدين الشيعي والسياسي البارز في العراق مقتدى الصدر مقاطعته الانتخابات البرلمانية المقبلة، والمقرَّر إجراؤها في نهاية العام الجاري. وجاء بيان الصدر الذي أعلن فيه مقاطعته للعملية السياسية الأهم في العراق، رداً على سؤال من إحدى أنصاره يسأله عن استعدادات التيار الصدري للانتخابات المقبلة.
وقال الصدر: "ما دام الفساد قائماً، فلن أشارك في عملية انتخابية هشة لا تهتم إلا بالمصالح الحزبية والعرقية والطائفية، وتتجاهل معاناة الشعب والكوارث التي تشهدها المنطقة".
كما حث أتباعه وأنصار التيار الصدري على مقاطعة الانتخابات المقبلة، قائلاً: "لذلك، وكما أمرتهم بالتصويت، فإنني أمنعهم اليوم من التصويت والترشح؛ لأنه إعانة على الإثم، فما الفائدة من مشاركة الفاسدين، والعراق يلفظ أنفاسه الأخيرة، والقوى الأجنبية وقوى الدولة العميقة تسيطر على كل نواحي الحياة".
كان مقتدى الصدر قد اتخذ العديد من الخطوات في الفترة الأخيرة التي تم تفسيرها على أنها استعداد للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ فقد أعاد هيكلة التيار الصدري سياسياً واجتماعياً، وأطلق عليه اسم "الحركة الوطنية الشيعية"، كما عادت مؤسسات التيار الصدري الاجتماعية للعمل بقوة استعداداً لحشد الجماهير للمشاركة في الانتخابات المقبلة، وأعاد تفعيل المكاتب السياسية للتيار الصدري، وشارك قادة بارزون في التيار الصدري في العديد من الاجتماعات والمؤتمرات التي تناقش الانتخابات المقبلة والعملية السياسية بشكل عام.
وكانت الخطوة الأبرز هي زيارته النادرة إلى المرجع الشيعي الأكبر في العراق آية الله العظمى علي السيستاني. وتحدثت المصادر المقربة من مقتدى الصدر لـ"عربي بوست" في تقارير سابقة عن نية قوية وواضحة من زعيم التيار الصدري للمشاركة في الانتخابات المقبلة.
وكان التيار الصدري قد حصل على 72 مقعداً في البرلمان بعد انتخابات عام 2021، ليصبح الكتلة البرلمانية الأكبر، وعقد تحالفاً ثلاثياً مع مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومحمد الحلبوسي زعيم حزب "تقدّم" والسياسي السني البارز، لتشكيل حكومة أغلبية وطنية كما أطلق عليها، مستبعداً منافسيه من الأحزاب الشيعية التقليدية (الإطار التنسيقي الشيعي)، ولكنه أعلن انسحابه من الحياة السياسية العراقية بعد اعتصام أنصاره داخل المنطقة الخضراء واقتحامهم البرلمان العراقي، بعد محاولات مستميتة من منافسيه في الإطار التنسيقي الشيعي لعرقلة جهوده لتشكيل حكومة أغلبية وطنية، زاعمين أن الصدر يرغب في إقصائهم واستبعادهم من الحكومة الجديدة حينها.
وبعد اشتباكات دامية بين أنصاره ومؤيدي منافسيه داخل المنطقة الخضراء، وسقوط عشرات القتلى ومئات المصابين، أعلن مقتدى الصدر في نهاية عام 2022 انسحابه الكامل من المشهد السياسي العراقي، كما قاطع التيار الصدري انتخابات مجالس المحافظات في عام 2023.
وبعد الانسحاب والإعلان غير المباشر عن عودته مرة أخرى، عاد ليعلنها صراحة وبشكل مباشر أنه لن "يشارك الفاسدين" على حد تعبيره. فما الذي تغيّر؟ وما الأسباب التي دفعت مقتدى الصدر، بعد الخطوات الإيجابية السابق ذكرها، إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة واتهام منافسيه بالفساد ورؤيته المتشائمة لمستقبل العراق السياسي؟
الخوف من الفشل
بحسب قيادي سياسي في التيار الصدري، تحدّث لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته نظراً لحساسية الأمر، فإن مقتدى الصدر يخشى ألا يتكرر فوز عام 2021 ويحصل التيار الصدري على الكتلة البرلمانية الأكبر. "هذا الأمر سيكون بمثابة فشل سياسي للتيار الصدري"، على حد تعبيره.
ويقول المصدر ذاته لـ"عربي بوست": "الانسحاب من المشهد السياسي ومقاطعة انتخابات مجالس المحافظات ترك آثاراً سلبية على جماهيرية التيار الصدري، وهذا أمر لا ينكره حتى مقتدى في الكثير من الاجتماعات. فقد نجح الإطار التنسيقي في فرض سيطرته وتوسيع جغرافية نفوذه مستغلاً غياب التيار الصدري، وبالتأكيد هذا الأمر سيؤثر على فرص ضمان التيار الصدري الكتلة البرلمانية الأكبر في البرلمان القادم".
وأشار القيادي السياسي في التيار الصدري إلى صعوبة أن يحصل التيار على 70 مقعداً إذا خاض الانتخابات المقبلة، فيقول لـ"عربي بوست": "حذّرنا مقتدى الصدر من هذا الأمر عندما قرر الانسحاب في عام 2022، وكنت واحداً من أكبر المعارضين لهذا الانسحاب؛ لأنه سيؤثر على شعبية وانتشار التيار الصدري بين الأصوات الانتخابية، لكن الصدر مضى في عناده".
في السياق ذاته، هناك عامل آخر يزيد من مخاوف مقتدى الصدر من خوض الانتخابات القادمة، بحسب قيادي سياسي ثانٍ في التيار الصدري، وهو أن مقتدى الصدر لن يجد من يتحالف معه إذا قرر خوض الانتخابات المقبلة.
ويقول المصدر ذاته لـ"عربي بوست": "إذا افترضنا أن التيار الصدري خاض الانتخابات المقبلة وحصل على عدد مقاعد كبير، فلن يتمكن من عقد تحالفات داخل البرلمان لتشكيل الحكومة. من سيوافق على التحالف مع التيار الصدري، حتى لو قدمنا مئات الضمانات، بعد ما صار في عام 2022؟".
جدير بالذكر أن حلفاء مقتدى الصدر في انتخابات عام 2021، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب "تقدّم"، "شعروا بالخيانة" بعد تحالفهم مع التيار الصدري في مواجهة الإطار التنسيقي الذي يسيطر على الحكم، ومن ثم اتخاذ الصدر قراره منفرداً باعتزال الحياة السياسية، تاركاً حلفاءه في مواجهة غضب وانتقام الإطار التنسيقي الشيعي، ففقد محمد الحلبوسي منصبه كرئيس للبرلمان، وتعنتت حكومة بغداد في الكثير من الأمور المالية مع حكومة أربيل، كجزء من عقاب الإطار التنسيقي الشيعي لتحالفهم مع الصدر.
الصدر لا يريد تحمل الأخطاء الداخلية والخارجية
وبالإضافة إلى خوف مقتدى الصدر من عدم تحقيق حزبه فوزاً ساحقاً مماثلاً لفوزه في انتخابات عام 2021، أشارت المصادر السياسية من التيار الصدري إلى عدم رغبة مقتدى الصدر في تحمّل أخطاء الإطار التنسيقي داخلياً، وأخطاء إيران وحلفائها في العراق.
يقول المصدر السياسي الأول من التيار الصدري لـ"عربي بوست": "الإطار التنسيقي الشيعي ارتكب الكثير من الأخطاء السياسية، والحكومة الحالية لديها مشكلات تنذر باندلاع احتجاجات جماهيرية في أقرب وقت. ويرى مقتدى الصدر أنه إذا خاض الانتخابات المقبلة وشارك في الحكومة المستقبلية، سيتحمل جزءاً من إرث الإطار التنسيقي ومشاكل الحكومة الحالية، ولا يمكن للتيار الصدري تحمّل مسؤولية مشاكل منافسيه، خاصةً وأنه لم يكن في السلطة لفترة طويلة".
كما أشار المصدر ذاته إلى أن العراق من الممكن أن يصبح في أي وقت من الأوقات جزءاً من صراع عسكري بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، مضيفاً: "ترامب عازم على فرض العقوبات على المؤسسات المالية العراقية، وإذا فشلت المفاوضات الحالية مع الإيرانيين، فستكون الفصائل العراقية الموالية لإيران جزءاً من صراع عسكري بين طهران وواشنطن، ولا يمكن للتيار الصدري التعامل مع مصائب إيران في العراق وتحمل هذه المسؤولية".
وعبّر عن نفس الشعور المصدر السياسي الثاني من التيار الصدري قائلاً لـ"عربي بوست": "تواصلت إيران مع مقتدى الصدر كثيراً، وأخبرته بشتى الطرق أنها تبارك عودته للحياة السياسية، ولكن الصدر يرى أن هذا فخ إيراني للتيار الصدري".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "إذا شاركنا في الانتخابات المقبلة وقررنا تشكيل الحكومة المقبلة، وساعدت إيران في ذلك بتحجيم حلفائها في الإطار التنسيقي، فهذا يعني أن التيار الصدري سيتحمل مواجهة الولايات المتحدة وعقوبات ترامب وضغوطه لحل الفصائل المسلحة، ولن يتحمّل التيار الصدري كل هذه المشكلات التي لا ذنب له بها".
وبحسب المصادر من التيار الصدري، فإن مقتدى الصدر يرى أن على الإطار التنسيقي الشيعي مواجهة ما اقترفه من أخطاء داخلياً وخارجياً، وعليه أن يتحمل نتيجة السماح بتمدد النفوذ الإيراني في العراق، وجرّ البلاد في أي وقت لصراع الإيرانيين مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
نصيحة من النجف؟
في مارس/آذار من العام الماضي، قام مقتدى الصدر بزيارة السيستاني في مدينة النجف. كانت هذه الزيارة محط أنظار جميع النخب السياسية داخل العراق، لأنه معروف عن السيستاني أنه يرفض منذ سنوات طويلة مقابلة السياسيين العراقيين. وبحسب المصادر العراقية التي تحدّثت لـ"عربي بوست" في وقت سابق، فإن مقتدى الصدر طلب أكثر من مرة مقابلة السيستاني، ولكن لم يحصل على ردٍّ إيجابي، إلا في مارس/آذار 2024.
حينها فسر الكثيرون موافقة السيستاني على مقابلة مقتدى الصدر على أنها مباركة من رجل الدين الشيعي الأكبر في العراق، لعودة الصدر إلى الحياة السياسية، خاصة بعد ما اتخذ مقتدى الصدر الكثير من الخطوات في نفس الاتجاه كما ذكرنا سابقاً.
ولكن الآن، اختلفت الأمور، وأعلن الصدر بشكل واضح مقاطعته للعملية السياسية. في هذا الصدد، أشار سياسي شيعي مقرّب من التيار الصدري قائلاً لـ"عربي بوست": "الصدر يخشى على صورته كرجل دين، وعلى الأرجح فقد وصلته نصيحة من النجف بعدم الانخراط في العملية السياسية في الوقت الحالي".
لكن المصادر السياسية من التيار الصدري التي تحدثت لـ"عربي بوست" في هذا التقرير، رفضت هذا التفسير السابق. وقال أحد المصادر: "دائماً ما تكون قرارات مقتدى السياسية نابعة منه هو فقط. أنا والكثيرون داخل التيار رافضون لفكرة العزلة السياسية التي وضع مقتدى التيار الصدري بها، وما زلنا نرفض الانسحاب من الحياة السياسية وخسارة مكانتنا الأيديولوجية والسياسية. صحيح أن الصدر يستمع لنصائح السيستاني بالتأكيد، ولكن لن تكون نصائح النجف هي الدافع وراء مقاطعة الصدر للانتخابات".
هل من الممكن أن يتراجع الصدر عن قراره؟
نظراً إلى تاريخ مقتدى الصدر السياسي، فقد أعلن اعتزاله الحياة السياسية عدة مرات، ثم تراجع عن موقفه وشارك في الانتخابات البرلمانية، وكان التيار الصدري جزءاً من الحكومات المتتالية.
ولكن ماذا عن هذه المرة؟ هل من الممكن أن نشهد تراجعاً في موقف مقتدى الصدر، ويعلن التيار الصدري في أي وقت خوضه الانتخابات البرلمانية المقبلة؟
في هذا الصدد، يقول الباحث السياسي العراقي حيدر عبدالجبار لـ"عربي بوست": "من الصعب أن يتراجع الصدر عن موقفه، خاصة في الوقت الحالي. الصدر لا يريد أن يكون جزءاً من فشل الحياة السياسية الحالية في العراق، وقد أشار إلى ذلك في بيانه عندما قال: لا نشارك الفاسدين… يريد الصدر أن يكون رجل الإصلاح الأول والأخير في العراق".
وأضاف عبدالجبار قائلاً: "يرى الصدر أن الوضع السياسي الحالي سينفجر في أي وقت، ولن تستطيع حكومة الإطار التنسيقي مواجهة غضب الجماهير، خاصة مع استمرار الفساد وأزمة الكهرباء المستمرة والفساد المالي. إنه ينتظر اللحظة المناسبة، عندما تنفجر كل المشاكل في وجه قادة الإطار التنسيقي، حينها سيظهر الصدر كمخلّص للعراقيين".
أما بالنسبة لموقف الإطار التنسيقي الشيعي من إعلان مقاطعة مقتدى الصدر للانتخابات البرلمانية المقبلة، فيقول قيادي من الإطار التنسيقي لـ"عربي بوست": "منذ فترة، يحاول نوري المالكي والسوداني التواصل مع الصدر لإقناعه بالمشاركة في الانتخابات المقبلة والدخول في تحالفات مع أيٍّ منهما. صحيح أنه في وقت من الأوقات أرسل لهم إشارات إيجابية، ولكن الآن قد أثار الكثير من الجدل بعد قراره المقاطعة".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "عندما انسحب الصدر من الحياة السياسية في 2022، كان الإطار التنسيقي يخشى أن يتم اتهامه بالاستحواذ على السلطة والحكم، وإقصائه لتيار سياسي مخضرم مثل التيار الصدري. ولكن الآن، وبعد أن جرت الأمور بشكل سلس بدون الصدر، فأعتقد أن قادة الإطار لن يشغل بالهم مسألة مقاطعة الصدر مثلما كان في السابق".
ويعلّق الخبير السياسي حيدر عبدالجبار على هذه المسألة قائلاً لـ"عربي بوست": "من الممكن أن يحاول بعض قادة الإطار التنسيقي، مثل نوري المالكي على سبيل المثال، والذي يريد ضرب منافسه (محمد شياع السوداني)، التواصل مع الصدر لإقناعه بالعدول عن قراره. ولكن سيكون شرط الصدر حينها هو تعديل قانون الانتخابات، وهذا ما ترفضه كافة قوى الإطار التنسيقي".
جدير بالذكر أنه قبل انتخابات عام 2021، وعندما كان التيار الصدري مشاركاً في البرلمان، ضغط التيار لتعديل قانون الانتخابات، وقد أقر البرلمان حينها قانون انتخابات الدوائر، وكان هذا من ضمن أسباب نجاح التيار الصدري في الحصول على 72 مقعداً في انتخابات عام 2021. ولكن بعد انسحاب مقتدى الصدر من المشهد السياسي، قام الإطار التنسيقي بالعودة إلى قانون الانتخابات القديم الذي يعتمد على نظام الدوائر المتعددة (83 دائرة)، ونظام سانت ليغو، والذي يعزز فرص فوز الإطار التنسيقي الشيعي.
وأضاف عبدالجبار قائلاً: "قبل أن يتمكن الإطار التنسيقي من فرض نفوذه على جميع مفاصل الدولة، كان من الممكن أن يفكر قادته في تعديل قانون الانتخابات لضمان عودة الصدر. ولكن الآن، وبعد غياب الصدر عن الساحة السياسية، رأى قادة الإطار أن هذا الغياب لم يؤثر بالسلب على الحياة السياسية في العراق كما كانوا يتوقعون، لذلك لن يهتموا كثيراً بمحاولات استمالة الصدر مرة أخرى للمشاركة في الانتخابات المقبلة".
0 تعليق