لم يسبق أن هزّ رئيس أمريكي مفاصل الحياة اليومية في البلاد بهذا الشكل السريع والمباشر كما فعل دونالد ترامب خلال أقل من ثلاثة أشهر على توليه الحكم. فأجندته الصدامية، التي لا تعتذر ولا تتراجع، جعلته محور قرارات مصيرية تُتخذ اليوم في مجالس إدارات الشركات الكبرى، وعلى خطوط الإنتاج وسلاسل الوريد، وفي الجامعات، والمدارس ورياض الأطفال٬ وحتى في عواصم العالم وعلى موائد العشاء في بيوت الأمريكيين٬ كما تقول صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.
منذ اليوم الأول، بدأ ترامب تنفيذ حملة شرسة ضد الهجرة، خفّض عدد الموظفين الحكوميين بشكل غير مسبوق، وسعى لتفكيك مؤسسات اتحادية بكاملها٬ وهو ما يزال يطيح بخصومه واحداً تلو الآخر، ويقيل من يشاء دون تردد، ويهاجم مكاتب محاماة كبرى يتهمها مقرّبون منه بأنها تعاونت سابقاً مع تحقيقات ضده.
وبينما يواصل ترامب حكمه بتجاهل شبه كامل للانتقادات، بدأ ترامب يلوّح بنبرة لا يُعرف إن كانت جادة أم لا برغبته في الترشح لولاية ثالثة، متحدياً بذلك واحدة من أقدم القواعد في النظام السياسي الأمريكي. وهو اليوم يعمق الشرخ داخل الشارع الأمريكي ويزيد انقساماته٬ حيث قرر مئات الآلاف من الأمريكيين كسر حاجز الصمت والخروج في مظاهرات واسعة ضده وضد فريقه المثير للجدل٬ على رأسهم رجل المال والأعمال إيلون ماسك.
التظاهرات تعم المدن والولايات الأمريكية ضد ترامب وفريقه
- يوم السبت 5 إبريل/ نيسان 2025 تدفق مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع في جميع الولايات الأمريكية الخمسين٬ لمعارضة الرئيس ترامب وإيلون ماسك، مطالبين بـ"إنهاء استحواذ المليارديرات على البلاد". تم التخطيط للمظاهرات تحت شعار "ارفعوا أيديكم عن الناس!" في المدن الأمريكية الكبرى من قبل منظمات الحقوق المدنية والنقابات العمالية وجماعات المحاربين القدامى وغيرها من المنظمات.
- وأعرب المتظاهرون عن غضبهم إزاء تحركات الإدارة لطرد عشرات الآلاف من العمال الفيدراليين، وإغلاق المكاتب الميدانية لإدارة الضمان الاجتماعي، وإغلاق وكالات حكومية بأكملها، وترحيل المهاجرين، وخفض التمويل للبرامج الصحية.
- نظمت هذه الحركات عدة احتجاجات على مستوى البلاد ضد ترامب وفريقه على رأسهم إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم ، والمكلف بخفض الميزانية الفيدرالية منذ عودة الرئيس إلى منصبه. ولم تكن حركة المعارضة قد حشدت أعدادًا تُذكر خلال إدارة ترامب الأولى، بما في ذلك مسيرة النساء عام 2017، بعد تنصيب الجمهوريين لأول مرة، أو مظاهرات "حياة السود مهمة" التي اندلعت في مدن متعددة بعد مقتل جورج فلويد على يد ضابط شرطة في مينيابوليس عام 2020. لكن بعد 77 يوماً من ولاية ترامب الثانية٬ تم تنظيم نحو 1200 احتجاج في الولايات المتحدة، وقال المنظمون في واشنطن إن مئات الآلاف من الأمريكيين شاركوا فيها. وفي مدن أوروبية، بما فيها لندن وبرلين وباريس، خرج المئات للتظاهر تضامناً مع المتظاهرين الأمريكيين.

- وسار المتظاهرون في لوس أنجلوس نحو مبنى البلدية يوم السبت، وهم يهتفون "السلطة للشعب" ويحملون لافتات تحمل رسائل مثل "ابتعدوا عن التعليم". وفي واشنطن، قال جيمي راسكين، الممثل الديمقراطي عن ولاية ماريلاند، للمحتجين من على منصة إنه "لا مستقبل للولايات المتحدة مع رئيس يتبنى سياسات موسوليني واقتصاد هربرت هوفر". وأضاف راسكين أمام الحشود: "كتب مؤسسونا دستورًا لا يبدأ بعبارة "نحن الديكتاتوريون"، بل تقول ديباجته "نحن الشعب". وأضاف: "لا أحد من أصحاب الأخلاق يريد ديكتاتورًا يُدمر الاقتصاد، لا يعطي لشيء أي قيمة".
- من جهته٬ أمضى إيلون ماسك يوم الأحد على منصته للتواصل الاجتماعي "إكس" بإدانة المتظاهرين الأمريكيين، بل ألمح إلى أنهم تلقوا أموالًا من الديمقراطيين و"نقلوا بالحافلات" لمواقع التظاهرات بعدما قام بإعادة تغريد فيديوهات تتهم المتظاهرين بذلك. وكتب ماسك: "المشكلة تكمن في مُحركي الدمى، وليس في الدمى، فهؤلاء لا يعرفون سبب وجودهم أصلًا".
- أما كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، فقد ردت في بيانٍ كتبت فيه: "من يعتقد أن الاحتجاجات والدعاوى القضائية والحرب القانونية ستُثني الرئيس ترامب، لا بدّ أنه كان غافلًا طوال السنوات القليلة الماضية. لن يتراجع الرئيس ترامب عن الوفاء بوعوده التي قطعها لجعل حكومتنا الفيدرالية أكثر كفاءةً ومساءلةً أمام دافعي الضرائب الأمريكيين المجتهدين في جميع أنحاء البلاد الذين أعادوا انتخابه بأغلبية ساحقة"٬ على حد تعبيرها.
3 أشهر من الفوضى.. سياسات ترامب التي تثير الغضب الداخلي والخارجي
- تقول "وول ستريت جورنال" إنه من نواحٍ عديدة، يُطبّق ترامب ما وعد به خلال حملته الانتخابية، وتحظى جوانب من أجندته، بما في ذلك الترحيل للمهاجرين، بقبول شعبي واسع٬ لكن التأثير الجماعي كان مُذهلاً للكثيرين.
- فرض ترامب تعريفات جمركية، في مسعى منه لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي، ووضع العديد من الأمريكيين في موقف دفاعي، وهم يحاولون التعامل مع احتمال ارتفاع الأسعار وانهيار السوق الذي أفقد 6.6 تريليون دولار من قيمتها السوقية الأسبوع الماضي.
- وتدرس العديد من الحكومات الأجنبية ما إذا كانت سترد وتقاوم أم ستتفاوض ترامب على تعريفات جمركية جديدة. ويراجع حلفاء أمريكا وخصومها إنفاقهم العسكري، في ظل عالم يستغل فيه ترامب قوتها العسكرية والاقتصادية لانتزاع كل ميزة من الدول الأخرى على حساب تحالفاتها.
- ما يغضب الأمريكيين هو أن ترامب وضع نفسه ومن حوله في قلب هذه القرارات، بسلطة مطلقة في التعامل مع الدول والجامعات والشركات وحتى الموظفين لتندلع حالة من الفوضى خلال أول 77 يوماً من الحكم. السؤال المطروح هو: هل تُساعده هذه التعطيلات على تحقيق طموحاته في إنهاء الحروب الخارجية، وتقليص صلاحيات الحكومة، وتجريد الليبراليين والتقدميين من نفوذهم في الثقافة الأمريكية، أم أنها أثارت مقاومةً من شأنها تقويض خططه٬ كما تقول الصحيفة الأمريكية؟

- يقول ستيف بانون، حليف ترامب ومتحدث وسائل الإعلام، والذي يعتقد أن "تدمير الرئيس للنظام الدولي القائم على القواعد في فترة ما بعد الحرب" والذي ساعد في تفريغ الوظائف الأميركية "يضعه في صدارة التاريخ مع جورج واشنطن وأبراهام لينكولن".. وأضاف: "لقد كان ما فعله أمراً رائعاً.. سيكون هذا عصر ترامب٬ العالم أجمع متأثر بهذا الرجل٬ إنه يُعيد تشكيل النظام العالمي، ولا يكتفي بالحديث عنه"!
- تباهى ترامب بالدور المحوري الذي يلعبه على الساحة العالمية، مشيرًا تحديدًا إلى أن جميع شركاء الولايات المتحدة التجاريين تقريبًا شعروا بالقلق من الرسوم الجمركية المرتفعة التي يتعين عليهم دفعها الآن لدخول السوق الأمريكية. وصرح ترامب للصحفيين يوم الخميس: "كل دولة اتصلت بنا.. هذا هو جمال ما نقوم به! نحن نتحكم ونسيطر على الأمور".
- تقول الصحيفة الأمريكية٬ إن الرئيس ترامب يحقق النتائج المرجوة من العديد من أفعاله، لا سيما مع سعيه لتجريد الجامعات وشركات المحاماة، بالإضافة إلى قطاعات واسعة من الثقافة التي يعتبرها ليبرالية٬ من بعض صلاحياتها.
- وقدمت الأيام الأخيرة تقييمًا رقميًا لكيفية ترسيخ المعارضة لترامب٬ حيث تجمع عشرات الآلاف من الأشخاص في واشنطن العاصمة، يوم السبت، للاحتجاج على سياسات إدارة ترامب، في واحدة من عشرات المظاهرات المماثلة في جميع أنحاء البلاد.
- وقالت المدعية العامة الأمريكية بام بوندي يوم الأحد 6 أبريل 2025 إن أكثر من 170 دعوى قضائية تم رفعها لوقف تصرفات ترامب المختلفة، مما أدى إلى إصدار 50 أمراً قضائياً.
- وفي الكونجرس، ارتفع عدد أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الذين يؤيدون مشروع قانون مشترك بين الحزبين لوضع قيود على سلطة ترامب في فرض التعريفات الجمركية إلى سبعة الأسبوع الماضي، وهو ما يمثل توبيخا نادرا للرئيس من داخل حزبه.
- في الوقت نفسه٬ أشاد العديد من الأمريكيين، وخاصة الجمهوريين، بجهود ترامب لتقليص صلاحيات الحكومة الفيدرالية وتقييد نطاق السياسات التقدمية، مثل متطلبات التنوع في التوظيف. من بين الأمريكيين الذين صوتوا في عام 2024، أراد حوالي 83٪ منهم تغييرًا جذريًا في طريقة إدارة البلاد، بما في ذلك 27٪ ممن أعربوا عن رغبتهم في رؤية "تغيير جذري شامل"، وفقًا لاستطلاع رأي واسع النطاق أجرته وكالة أسوشيتد برس العام الماضي. من بين ناخبي ترامب، أراد ما يقرب من 40٪ منهم تغييرًا جذريًا شاملًا.
- لكن الآن، وبعد أن بدأت آثار هذه التغييرات تظهر، انقسم الأمريكيون بشكل كبير. فقد فُصل عشرات الآلاف من الموظفين والمتعاقدين الفيدراليين أو أُحيلوا إلى إجازات، مما أدى إلى تقليص حجم الأبحاث الطبية، وتقليص أعداد موظفي المتنزهات الوطنية، وتقليص المنح المقدمة لمجموعة من مؤسسات الخدمات الخاصة والاجتماعية. ويُعرب غالبية الناخبين الآن عن قلقهم إزاء التخفيضات المحتملة في المزايا أو الخدمات الفيدرالية، وفقًا لاستطلاع رأي أجرته صحيفة وول ستريت جورنال مؤخرًا .
الانقسامات الحزبية تتسع أيضاً بشكل غير مسبوق لدى الأمريكيين
- في الوقت نفسه٬ لقد اتسعت الانقسامات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول السياسة الخارجية الأميركية إلى هوة عميقة، كما تظهر استطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة "وول ستريت جورنال"، حيث تحول الناخبون الجمهوريون بشكل متزايد ضد المساعدات لأوكرانيا والتجارة الحرة والالتزامات الدولية.
- يتضح هذا التباين الهائل في استطلاع جديد أجرته صحيفة وول ستريت جورنال، والذي اختبر رأيين متعارضين حول تحالفات أمريكا الخارجية. فقد اتفق حوالي 81% من الجمهوريين على أن حلفاء الولايات المتحدة لم يتحملوا مسؤولية كافية في الدفاع عن أنفسهم، وأن على الولايات المتحدة التوقف عن استخدام أموال دافعي الضرائب للدفاع عنهم. في المقابل، وافق 83% من الديمقراطيين على رأي بديل مفاده أن التحالفات الدولية مصدر قوة، ويجب دعمها بأموال دافعي الضرائب.
- ويأتي الفارق بين الحزبين بعد سنوات من تبني الجمهوريين لوجهة نظر انعزالية بشكل متزايد تجاه دور أميركا في العالم، في حين يواصل الديمقراطيون دعم التحالفات الدولية.
- في عام 2019، وجد مجلس شيكاغو للشؤون العالمية أن الفارق بين الحزبين كان 15 نقطة عندما سُئل الناخبون عما إذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يستفيدون من التحالفات الأمنية بين تلك الدول. وبحلول عام 2023 اتسع الفارق إلى 30 نقطة، حيث رأى 80٪ من الديمقراطيين و50٪ فقط من الجمهوريين فائدةً من ذلك.

- ومن بين جميع الناخبين في الاستطلاع الجديد، أيد 49% استمرار المساعدات لأوكرانيا، بينما عارضها 44%. وفي توبيخ للرئيس ترامب، وجد استطلاع أجرته صحيفة وول ستريت جورنال معارضة غير متوازنة لطموحاته في توسيع الأراضي الأميركية لتشمل جرينلاند وكندا ، وهو أحد أهداف الرئيس المميزة في السياسة الخارجية.
- رأى حوالي 62% من الناخبين أن تفكير ترامب المستمر في توسيع الأراضي الأمريكية لتشمل غرينلاند وكندا فكرة سيئة. بينما رأى 25% فقط أن السيطرة على هاتين المنطقتين فكرة جيدة، وستعزز الأمن القومي والاقتصاد الأمريكي. ولم يتطرق السؤال إلى رغبات ترامب المماثلة في السيطرة على قناة بنما، أو على الأقل مؤقتًا، على قطاع غزة.
- ومن بين الجمهوريين، وصف 51% تعليقات ترامب بشأن التوسع الإقليمي بأنها فكرة جيدة، في حين وصفها 28% بأنها فكرة سيئة ــ وهي أغلبية أضيق بكثير من تلك التي قدمها الناخبون الجمهوريون لمعظم مقترحات الرئيس السياسية الأخرى.
0 تعليق