أ.د مهدي دبان
كريتر... مدينة لا تشبه إلا نفسها، ليس لها مثيل، فريدة بتشكيلها، رائعة بخليطها المتجانس من ألوان زاهية وملامح مختلفة. ثقافات متعددة استوطنتها، تعايشت فيها، وتحولت بين أحيائها وحواريها إلى رواية ساحرة، لا يشعر بلذة العيش فيها إلا من سكنها وسكنته، من انصهر في نسيجها وأزقتها الضيقة، واختلط بروحها النابضة بالحياة.
كريتر... المدينة التي احتضنت المساجد والكنائس والمعابد، والجنسيات المختلفة، حتى باتت قلوب ساكنيها لا تقوى على مغادرتها. ولحسن حظي، أنني سكنتها صبياً صغيراً قادماً من الريف، أحمل في جوفي وعقلي أحلاماً كبيرة، ساقني القدر إلى هذه المدينة المغلقة جغرافياً كعلبة سردين، لكنها أوسع من الكون بآفاقها وعالمها ومعالمها وتاريخها.
تجول الفتى الريفي البسيط في أزقتها وشوارعها من الطويل إلى الزعفران إلى الملكة أروى، وعانق كل معالمها التاريخية كصيرة القلعة وصهاريج الطويلة. ذاب شوقاً في أسواقها كسوق الاتحاد، البز، الحدادين، والبهرة وغيرها . وقع في غرام شواطئها كحقات، وأبو وادي، حيث تتعانق الطبيعة والروح معا...
تعلمت في مدارسها الثرية بالعطاء كخالد هندي والبادري والمدراسي على أيدي معلمين إجلاء كخليل العيناعي، وحسن يوسف خان، منيرة مرتع، سعيد الرديني، سليمان باقعر ومحمود مدي وغيرهم ممن تأثرنا بأخلاقهم قبل علمهم، وبعطائهم قبل دروسهم.
كريتر... مدينة حالمة حالفة بالجمال، حيثما تولي وجهك ترى التاريخ ناطقاً، حاضراً، حياً.
مساجدها كأبان، والعسقلاني، والعيدروس، والشنقيطي، والشيخ عبدالله، تصدح بأصوات التوحيد والإيمان منذ قرون دون غلو أو تفريط، في توازن فريد يُشبه المدينة نفسها.
وفي قلبها اللحن الجميل والكلمة المؤثرة تنسج لتصير أغنية خالدة في رحاب معهد الفنون الجميلة، عبر عمالقة الفن الذين عاشوا بيننا حتى بعد رحيلهم: محمد سعد، أحمد قاسم، الزيدي، المرشدي، خليل محمد خليل، السكاريب، وشكيب جمن وغيرهم ...
وكانت السينمات المنتشرة بين أحيائها، من هريكن، وأروى، والأهلية، وبلقيس، تصنع وعينا وتفتح أبوابنا نحو العالم، تنير عقولنا وتنقلنا إلى آفاق بعيدة. وبعد انتهاء العرض، كنا نهرع إلى مطعم هاشم لنتذوق وجبة البيض والروتي والسلطة وشراب الكندا... يا إلهي! ما أجملها من لحظات، بسيطة وعميقة في آنٍ واحد.
أما ملعب "المجمع البلدي" (الحبيشي لاحقاً)، فكان أشبه بمسرح روماني قديم، يشهد المنافسات الحامية، وفنون كرة القدم الراقية، والنقاشات الساخنة التي لا تقل حرارة عن مدرجاته الإسمنتية في عز الصيف. كان ميداناً للأبطال، منارة لجيل ذهبي سُطر في صفحات التاريخ، جيل لا هدف له إلا إسعاد الناس، في مجتمع يقبل بالتنوع ويحتفي به.
أن ترمي بنفسك في أحضان سواحل صيرة وخليج "معجلين"، أن تشم هواء الجمال الرباني والنسيم الإلهي العليل، وتنظر إلى الأفق لترى أحلامك تتحقق على صفحة البحر، وترقب الصيادين يرمون شباكهم في بحر الخير والحب، ثم تعود لتتعشى على ألحان الصيادين العائدين إلى مرافئهم، مرددين: "على الله، هيا لي الله، على الله... باربان قود السفينة إلى بر الأمان... لا تبالي بارتفاع الموج والطوفان".
كريتر... ما أجملك، وما أجمل لياليك وأيامك في زمنٍ يبدو وكأنه حلم مر وانقضى.
باختصار: كريتر هي عدن.
0 تعليق